توقفت الحافلة نزل منها شاب أسمر طويل القامة يحمل بيده حقيبة رياضية.
نزع النظارات و أخذ ينظر الى القرية بعينيه العسليتين و هو يقول بينه و بين نفسه : و أخيرا عدت الى قريتي .
و بخطى سريعة كانت تختصر المسافات و الزمن توجه نحو بيته و بين كل خطوة و أخرى يسلم على أشخاص يعرفهم وهكذا حتى اقترب من البيت أين وجد جيرانه فسلم عليهم , و لكن طول الطريق كان يسأل نفسه : ماذا حدث ؟ لماذا كلما سلمت على شخص كان كأنه يعزيني , هل حدث شيئ لأمي أو أبي أو أحد اخوتي؟ و هنا بدأت خطواته تتثاقل خوفا من أن يسمع خبرا يفسد عليه فرحته بل يقتلها .
و أخيرا وصل الى باب البيت , و بقدر شوقه الذي يدفعه لدق الباب كان خوفه يمنعه و كان حال لسانه يقول : اللهم اني لا أسألك رد القضاء و لكن أسألك اللطف فيه .
دق البابب ثلاث مرات و توقف .فتحت له أخته الصغرى حياة و من فرحتها أخذت تقفز و تصرخ : أخي فارس , أخي فارس و قبل حتى أن يدخل راحت تجري من غرفة الى أخرى و تصيح : عاد فارس , عاد فارس أبي , أمي عزيزة حسن حسين . و هنا تنفس الصعداء :الحمد لله , لقد ذكرتهم كلهم اذا فكلهم بخير و عندها فقط استطاع أن يفلق الباب وراءه و أن يتقدم داخل البيت و لكن و قبل أن يخطو خطوة واحدة و جدهم أمامه فمن قرحتهم بعودته هرعوا اليه وأحاطوا به أما هو فبعد أن تأكد من سلامتهم جميعا ففرحته زادت و من شدة الفرحة أجهش بالبكاء . دخل الى غرفة الضيوف ,جلس و جلسوا كلهم حوله أما والده و والدته فكانا بحانبه يسألانه عن أحواله و صحته و لم يتركوه تقريبا لمدة ساعة ثم قالت الأم لأخته عزيزة : اذهبي و أحضري لأخيك الخف لا بد أن الحذاء قد آذاه .
فوقفت حياة و قالت : بل سأحضره أنا لأخي. و أخذتا الاثنتان تتسابقان من تخدم أخاها, و لكنه ناداهما : لا,لا, فأنا سأخرج.
سأله والده : الى أين؟
فأجابه و قد غط وجهه الاحمرار من الحشمة: الى بيت عمي رابح.
و هنا خيم الصمت البيت , و سكت الجميع , و عادت عزيزة و حياة أدراجهما الى الغرفة و اصفر وجه والدته ثم قالت و هي تبلع ريقها بصعوبة و كأنها تبتلع خبرا مؤلما: لم تمض ساعة على وصولك , استحم و غير ثيابك و كل قليلا فعزيزة اليوم طبخت الكسكس الذي تحبه . و نم قليلا , و غدا اذهب فالوقت الآن متأخر.
فعقب والده قائلا: نعم, عليك أن ترتاح أولا,
_ حسنا, حياة من فضلك حضري لي الحمام,
قالت عزيزة :و أنا سأحضر لك المائدة .
فابتسم و قال لها شكرا , ثم توجه الى الى غرفته , أغلق الباب وراءه و تمدد على فراشه واضعا يديه تحت رأسه و أغمض عينيه فلم يرى الا سلوى ابنة عمه رابح و أخذ يحدث نفسه: لقداشتقت اليها كثيرا. و فجأة فتح عينيه و كأنه فزع من شيئ ثم قفز من سريره كالذي وخز بابرة و هو يقول و يتمنى أن يكون شكه في غير محله : ربما .....هي ... من لا لا غي ممكن و لكن ملامح كل من التقيت بهم تقول أني قد خسرت انسان عزيز علي , فأهلي كلهم بخي لم تبق الا هي و عندها خرج بسرعة من غرفته, و عندما هم بالخروج من المنزل أوقفته أمه و سألته : الى أين ذاهب ؟
_ الى بيت عمي رابح.
_ و لكننا اتفقنا قبل قليل....
لم يتركها تكمل كلامها : لا , أريد الذهاب الآن . لن أطيل البقاء هناك , سأسلم عليهم فقط.
سمع والده ما قال من غرفة الضيوف أين كان جالسا يفكر في ابنه و كيف سيتقبل الأمر , فتوجه اليه : يا بني انتظر الى الغذ .
و كانت أمه أيضا تترجاه أن يؤجل الزيارة الى الغد
و عندما لاحظ الحاحهم ازداد شكه فأصر على الذهاب .
فقالت له أمه : سأذهب معك .
_ لا ,لا داعي.
_ فأطلت عزيزة من المطبخ و هي تمسح يديها في مئزر المطبخ: هل أذهب معك أخي؟
_ ان أردت ذلك.
نزعت المئزر و لبست المعطف ثم خرجا .
كان طوال الطريق صامتين . كانت عزيزة تحدث نفسها : ماذا أقول له ؟ هل أمهد له أم أتركه يكتشف الأمر عندما يصل؟
أما هو فألم الخوف أكبر من أن يسأل أو يحاول أن يعرف شيئا .
كانت خطاه سريعة و كانت عزيزة تسرع في مشيتها بل و تظهر و كأنها تجري كي تمشي بجانبه . و لكن عندما اقتربا من البيت ثقلت ساقاه و أصبحت تتباطأ و عندما استدار أحس أنها لا تريده أن يدخل و هنا أخذت دقات قلبه تتزايد و تتزايد معها سرعته دق الباب بقوة دقات متتالية و لم يتوقف حتى فتح له العم رابح و هو متكأ على عكازه : من ؟ فارس , أهلا بك , كيف حالك ؟ متى وصلت ؟
_ الحمد لله . وصلت منذ ساعة .
كان يجيبه و عيناه تترصد غرف البيت لعله يلمح سلوى
_ تفضل يا بني, هيا ادخل الى خالتك عيشة انها نائمة .
أدخله الى غرفة النوم أين وجد الخالة عيشة ممددة على الفراش و قد تغيرت قليلا و بان عليها الشيب, نظر الى أخته و قام بحركة بيده ليعرف مابها , فطأطأت رأسها و أحضرت له كرسيا ليجلس
أخذ العم يو قظ زوجته : عيشة , عيشة انهضي , انظري من جاء .
أخذت العجوز تفتح عينيها بصعوبة و تحاول أن ترى من أتى اليها , ثم فتحت ذراعيها لتحضنه و نطقت باسمه كأنها تقول آه .
نهض اليها وسلم عليها و هي تبكي و تحضنه
ثم جلس و هو ينظر الى أخته و العم و كلاهما كان يهرب بنظراته عنه .
انتظر برهة ثم قال : أين سلوى ؟ سأل عنها و عيناه في الأرض , لأنه يخجل رغم أنها خطيبته و زوجته شرعا.
فأجهشت الأم بالبكاء و سكت العم و أخته فانتفض من كرسيه : أين سلوى ؟ تكلموا . فأمسكت عزيزة بساعده لتهدئه و كانت تحاول أن تخبأ دموعها
فأجابه العم : انها قي المستشفى.
_ مستشفى؟ ماذا أصابها؟ ما بها؟
لم يجبه أحد و هنا خانتها عزيزة دموعها و أجهشت بالبكاء و بكى العم
_ ماذا؟ ماذا هناك ؟ تكلموا . ثم لم ينتظر بل أسرع نحو الخارج و عزيزة وراءه: فارس, فارس انتظر.
لم يكن يسمعها و أخذ يجري بكل ما أوتي من قوة حتى وصل الى موقف سيارات الطاكسي و ليست كذلك و انما أهل القرية من سموها هكذا ليعطوا لقريتهم وجها من وجوه المدينة . لم يجد هناك الا طاكسي واحدة و كان أهل القرية يدعونها آن طاكسي لشدة بطئها , و قد كان صاحبها عائدا لبيته ليرتاح بعد يوم عمل شاق.
فطلب منه فارس أن يوصله و لكنه رفض لأنه تعبان و سيارته أيضا. فأخذ فارس يترجاه أن يأخذه الى المدينة .و هكدا كان هذا يرفض وذاك يترجى الى أن عرض عليه فارس مبلغا مغريا فوافق على الفور
و بسرعة ركب فارس , أدار السائق المحرك و لكن كالعادة فهي لا تتحرك الا بالدفع . نزل فارس و توجه الى بعض الشباب _ الذين يسندون الحائط المقابل للموقف من الصباح الى المساء فلا عمل لهم كما يقولون على الأقل هنا قد نجد من يحتاجنا لمساعدتنا فنحس أن لوجودنا معنى _ و طلب منهم أن يساعدوه فلم يترددوا و دفعوا معه السيارة الى آخر الطريق المؤدي الى الطريق الرئيسي و أخيرا تحركت السيارة ,شكرهم ثم ركب السيارة و طلب من السائق أن يسرع .
كان هذا السائق من النوعية الرديئة للسائقين , كان ثرثارا و فضوليا لم يتوقف عن طرح الأسئلة .
_ لماذا هذا التسرع ؟ مابك؟ هل أنت من أهل هذه القرية ؟ أنا لم أرك من قبل , لقد انتقلت الى هنا منذ مدة .....
و هكذا واصل السائق الكلام دون التوقف و لو للحظة . أما فارس فلم يكلمه , بل و لم يرد عن أسئلته فقد كان عقله مع سلوى و كان كل ما يطلبه منه أن يسرع .
عند وصولهم الى المدينة أخذ السائق يمسح الزجاج الأمامي للسيارة و هو يقول: غريب هذا الجو المتقلب قبل ساعتين لم تكن تمطر و كان الجو صافيا , سبحان الله.
أعطاه فارس كل ما كان في جيبه من مال , و أخذ يجري متجها الى المستشفى . لم يكن يحس بالمطر الذي يتساقط فوقه , ربما لأنها كانت تطفأ النار التي كانت بجاخله .
وصل و هوينهج سأل الممرضة عن رقم غرفة خطيبته . أجابته وهي تنظر اليه باستغراب , فقد كانت ثيابه مبللة و كان في حالة يرثى لها ثم قالت له: لكن غير مسموح بالدخول الآن عد على السادسة صباحا. لم يهتم لكلامها و بخطى سريعة توجه الى الغرفة , و كانت الممرضة تناديه: يا سيد, عد انه ممنوع...
وصل الى الغرفة , فتح الباب و كان يحس و كأنه سيفتح لقلبه جرحا . و هناك وجد جسما هزيلا بالكاد يظهر على الفراش مغطى بفطاء أبيض. أخذ يقترب من السرير بخطى بطيئة كان يجري ليصل اليها أما الآن فيتمنى لو أن المسافة بينه و بين السريرطويلة حتى لا يفجع فيها .
دنا منها , فاتسعت عيناه و فتح فاه و أجس بدوار و من شدة هول ما رآى لم تكن ساقاه لتحملاه فسقط على الكرسي الذي كان جانب السرير .
في هذه اللحظة وصلت الممرضة و معها الطبيب: لقد حاولت منعه و لكنه لم يستمع الي . فأشار اليها لتسكت و أن تخرج .
اقترب منه و وضع يده على كتفه. أما هو فعيناه لا تفارقها ثم رفع رأسه الى الطبيب و كانت عيناه تفيض من الدمع . أمسكه الطبيب و أخرجه من الغرفة .
مسح عينيه و تجلد ثم سأله : ما بها؟
ربت على كتفه ثم طلب منه أن يدهب معه الى مكتبه .
_ هل هي قريبتك؟
_ أقرب الناس الي انها زوجتي.
_ أنت فارس.
نظر اليه مستغربا .
_ لا تستغرب , لم تكن تتحدث الا عنك .
_ مابها؟
_ انها في المراجل الأخيرة من المرض .
تسمر في مكانه , أحس و كأن الأرض تدور . واصل الطبيب حديثه : لقد تمكن منها المرض و ليس لمرضها علاج . بتقدير العلم لم لتبق لها الا أيام , و طبعا الأرواح بيد الله و لا أحد يستطيع أن يجزم أن أحدا سيموت أو الآخر سيحيا , ماذا أقول لك ؟ ربي يصبرك.
و ما ان أنها الطبيب كلامها جتى سقط مغشيا عليه