العقل هو مناط الإدراك والفهم ، وهو الوعاء الذي يحتوي العلم والمعرفة معاً . والعلم هو ثبات الحقائق المدركة في الدماغ والمنقولة من مصدر خارجي ، والعلم يشمل المعرفة أيضاً . والمعرفة هي الحقائق التي تنتقل الى الإدراك نتيجة احتكاك الإنسان بالواقع وتجربته . ولكي نفهم هذه المعاني بصورة أوضح فسوف نبين كلاً منها ثم نربط المعنى بالآيات القرآنية لكي نجد الفرق بين المعاني الدقيقة التي استخدمت الآيات فيها تلك اللفظات الثلاث ( العقل ، العلم ، المعرفة ) .
أولاً – العقل
اشتقت لفظة العقل من الفعل ( عقلَ ) ، ويفيد معنى الربط والمنع والكبح ، ومنه ( العقال ) أو الحبل الذي ( يعقل ) أو يربط به البعير ليمنعه من مغادرة مكانه . وهذا الاشتقاق يعني أن العقل هو الذي يمنع الإنسان العاقل من الحركة إلا الى الأماكن التي فيها مصلحته ، ويمنعه كذلك من الوقوع في المهالك سواء بالفعل أم بالقول .
والعقل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإدراك والفهم ، ولكي يحدث الإدراك والفهم عند الإنسان لا بد من توافر عناصر أربعة ، إذا غاب أحدها انتفت عملية الإدراك ، وهذه العناصر هي الواقع المحسوس ، والحواس ، والدماغ السليم ، والذاكرة . فمثلاً ، إذا وضع أحدهم أمامك تفاحة وسألك ما هذه ؟ فسوف تجيب على الفور : إنها تفاحة . فكيف علمت أنها تفاحة ؟ لأن العناصر الأربعة التي ذكرناها كانت متوافرة ، فالتفاحة هي الواقع المحسوس ، وحاسة البصر هي التي نقلت صورتها الى دماغك السليم ، وذاكرة دماغك تختزن من السابق صوراً للتفاح وأشكاله وألوانه ، فلما اكتملت العناصر الأربعة وجد عندك الإدراك . والآن تعال نخفِ عنصراً في كل مرة ونرَ ما يحدث ، فلو أخفى السائل التفاحة في صندوق ثم سألك ماذا يوجد في الصندوق ؟ فلن تقول تفاحة ، لأنها – كواقع محسوس – ليست موجودة . فإذا افترضنا أنه غيّب حاسة البصر عندك عن طريق وضع عصابة على عينيك ، ثم سألك ما هذه ؟ فلن تقول تفاحة لأن حاسة البصر غير موجودة . وإذا افترضنا أنه سأل إنساناً مجنوناً أو سكران أو في دماغه عيب فلن يقول إنها تفاحة لأن الدماغ ليس سليماً . وإذا افترضنا أنه يعرض التفاحة على طفل صغير لم يسبق له أن رأى التفاح في حياته فلن يدرك الطفل التفاحة لأن ذاكرة دماغه لا تحتوي صوراً سابقة للتفاح ، وكذلك لو عرض عليك أحدهم صوراً فوتوغرافية فأنت ستدرك صور الناس الذين سبق أن رأيتهم قبل ذلك لأن صورهم مخزنة في ذاكرتك فتقول هذا فلان وهذا فلان ، بينما ستنكر صور الذين لم يسبق أن اختزنتهم ذاكرتك ولن تقول هذا فلان وهذا فلان . ولك أن تقيس على ذلك جميع الحواس الأخرى غير حاسة البصر ، حيث يمكنك أن تدرك وجود قطة وراء حاجز عندما تسمع صوت موائها ، ويمكنك إدراك البصل لمجرد أنك تشم رائحته .. وهكذا .
وقد ذكرت مشتقات ( العقل ) في القرآن الكريم 49 مرة ، كلها تشير الى معنى ( الفهم والإدراك ) ، ولك أن تستعرضها جميعاً لترى أنها تشير الى ذلك ، وإليك بعض الأمثلة من الآيات الكريمة :
( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) البقرة: 44 .
( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) الملك: 10 .
( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت: 43 .
( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) الأنفال : 22 .
ويستطيع الإنسان أن يستبدل العنصر الأول ( الواقع المحسوس ) بأثر من هذا الواقع ، ثم يقيس عليه فيدرك ويعقل وجود الواقع نفسه ، وبهذه الطريقة يستطيع العقل الإنساني أن يستدل على وجود الخالق سبحانه من خلال أثره البادي في خلقه ، ومن خلال الحكمة العظمى التي يسير بمقتضاها كل شيء في هذا الكون الشاسع ، كما قال الأعرابي البسيط ( البعرة تدل على البعير ، وآثار الأقدام تدل على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ، كيف لا تدل على اللطيف الخبير؟ ) .